الجمعة، 30 سبتمبر 2022

عن التطبيع؛ السياق وإطار المواجهة

(1)

المسار العادي للعيش في المنطقة بات يمر عبر وسيط له علاقة مع إسرائيل ومطبع معها. الأمر شامل حتى سماعك لبعض الموسيقى!

المسألة كارثية ومؤسفة وممتدة إلى المنح الدراسية للطلاب المتفوقين في إطارها الأشمل. المعادلة هي كالتالي: السبيل الوحيد لانتشال نفسك من مستنقع قومك هو الانضمام إلينا، وللفضاء العام شرط ارتقاء لا يحتاج إلى كبير ذكاء لاكتشافه: التقاط اللغة السارية واستبطان منطقها والعمل بمقتضاها، وإثبات إفادة قابلة للتجدد لصائغي أبجديتها. كل ذلك بغير إشارة: تعلم الهجاء وانخرط. كلمات لا تقال، وخلجات وجه لا تطفر! إن كنت جادًا بطلب التسلق. موقفك من اللغة وصائغي الأبجدية يحدد تطلعك. القادرون الساخطون على العزل يحولون أنفسهم إلى أمثولات مبتغاة، إلى مهزلة.

المسكوت عنه والمتعارف عليه ضمنيًا هو استبعاد أي خطاب معادٍ لإسرائيل كخط أحمر يستوجب الطرد الفوري من مجتمع المنح والجوائز والأوساط الثقافية والأكاديمية. أنت جزء من مشروع عام لتطوير "السكان المحليين"، أهلك، بما يتناسب مع ما يحدده السادة من أسس ومثل!

الأمر أكثر تعقيدًا من صورة المثقف العميل أو المتسلق الواعي. هذا هامشي جدًا قياسا إلى الاختراق العام، وهو أبعد من حرمان الطبقات المرشحة للمقاومة من أي طليعة محتملة.

(2)

فقدت الحدود القديمة لقضية الصراع مع إسرائيل ما بقي لها من معنى عملي، بينما الحاجة إليها ماسة: كانت "القضية" - على كل الخلل البنيوي فيها - تجسيدا لمقاومة مجموعة قيم ومصالح باتت الآن قائمة منتصرة متحكمة في كل تفاصيل الحياة. عنصر الاستمرار، الخالق للحاجة إلى الصراع، هو استحالة انتصار مجموعة القيم والمصالح المقابلة دون مواجهة وتنحية الخطر الإسرائيلي وتفكيكه بما يشمل البعد العسكري. مهما بدا هذا أقرب إلى الاستحالة منه إلى التحقق. هذا حظ بائس، ولكنه الشرط الخاص بالمنطقة التعسة. تطبيع العلاقات بين نظم المنطقة وإسرائيل والتعاون الكامل بين أعدائنا مفيد للغاية. هو وضوح دُفع ثمنه عبر خراب عقود من حكم طغم ما بعد "الاستقلال".

الشكل القديم من التعامل، فكرة القبض على جمر المبدأ مدعومًا بالشكل المشوه للمسألة باعتبارها قضية حق هوياتي، لا يساعد سوى التحالف الحاكم في المنطقة، وإسرائيل جزء منه منذ عقود، في اجتذاب الموهوبين في كل مجال، ضد مصالح أهلهم وطبقاتهم الاجتماعية، تحت بند الاستحالة بالذات سواء بشكل واعٍ أو غير واع.

هناك نضال إنساني مشروع لسكان أرض تم اقتلاعهم لحل مشكلة أوربية والحيلولة دون نهضة المنطقة. السعي للمستقبل يصطدم بإسرائيل حتمًا وأهل الأرض المقتلعين منها لهم حق العودة والاسترداد بكل الوسائل، فهم حلفاء طبيعيين للطبقات العاملة في المنطقة ورفقة السلاح هي لصنع مستقبل مشترك.

هذا هو الأمر وليس هوية الأرض منذ فجر التاريخ والاستناد إلى الأساطير على اختلافها. لم تعد الدعاوى من هذا النوع قادرة على الحشد بأي حال، وهي أساس واهٍ للمقاومة؛ فإن كانت الإرادة العليا قد قضت بالعلو الإسرائيلي في الأرض، فما من سبيل لإيقاف تلك الإرادة واقعيًا! مع الإحالة إلى آخر الزمان لحل المشكلة، فضلًا عن تحويلها إلى قضية دينية تضع السيادة لأولي الأمر من التنظيمات الإسلامية كشرط لصلاح المسلمين لاستحقاق النصر المنشود كوعد إلهي.

تسبب هذا التحول المأساوي لقضية الحق في خروج قطاعات واسعة من سكان المنطقة من نطاق الاهتمام بالأمر برمته، فضلًا عن أن مواجهة ما يبدو مستحيل التحقق لدوافع دينية لهي أمر جاذب للأشد إخلاصًا، أو للموتورين إن شئت. غير قابل للتعميم أو للبناء المادي عليه بمعركة أساسها العلم.

هو أيضًا سهل الدحض كأساس فكري، وملتبس جدًا لأن النصوص المستند إليها تستند في أصلها على النصوص الداعمة للطرف الآخر بما يمنحها المشروعية في حين لا توجد أية دلائل تاريخية على صحة ما ورد بالنبوءات اليهودية. يسهل أيضًا إثبات أن ما تم اعتباره مقدسات بالقدس مثلًا ترجع في أصلها إلى العهد الأموي. أيفترض بهذا الهراء أن يضعف قضية كتلك؟

الضعف التأسيسي لأيديولوجيا المقاومة كان سابقًا على مستنقع خطاب ما بعد فشل مشروع التحرر الوطني في صيغة القومية العربية. المخاطبات الرسمية المصرية كانت تشير إلى العدو الإسرائيلي بلفظة اليهود، ولإثارة حماسة الجنود في حرب التحريك تم توزيع منشور بأن أحد الصالحين قد شاهد في منامه من الرؤيا ما يدعم النصر، وإلى الآن تروج فكرة أن الملائكة حاربت!

الفكرة الإسرائيلية المقابلة، والتي نظّر لها شيمون بيريز، والناجحة في الجذب تخص الحياة المعاشة. نقطة قوة المقاومة كفكرة هي الأرضية المادية نفسها: "نوعية" الحياة المعاشة.

مناهضة التطبيع الحقة طلب مستقبل.

المستقبل التقدمي تطور تخلقه الدوافع الإنسانية الطبيعية يحمل النزوع إلى الأرقى تلقائيًا، وتخليقه مشروط بمعركة واسعة ضد "السياق" الذي أفرز ما نحن فيه، تشمل - حتمًا - مواجهة إسرائيل.

ليست هناك تعليقات: