تجاوز آخر للشكل. من زاوية معينة (لا أتبناها كما سيرد): تلك حكايات لم تُبذل العناية الكافية لتحويلها إلى بناء قصصي / روائي.
من أخرى: بعض كتاباته هي من أجمل ما قرأت من أدب عربي!
من ثالثة: تجاوز الشكل كان على نحو ما ضروريًا. بحسب رؤيته - المنقولة عن حوار أجري معه واختتمت به أعماله الكاملة - هو لا يعير الشكل أهمية، وإنما يقتصر اهتمامه على ما يود إيصاله، ويربط بين الأخير والثورة. مع تنحية مسألة قيمة الأدب بعموم إن استسلمنا لامتدادات المنطق الكامن خلف تلك النقطة، فإنني لا أخالف هذا الطرح. أعني: تبعية الشكل في الأخير للمضمون (بغض النظر عن معناه، وبغيته - فهو نقاش آخر) تحت إطار جمالي مميز للفن الممارَس، كنظام بين أنظمة للعلامات. تحت تلك المظلة تتشكل "القوانين"، وتتطور.
لذا أقيّم نصوص يحيى الطاهر عبد الله بمقياس مستمد من تلك الرؤية، لا من رأيه هو عما يفعل، أو منطلقاته النظرية.
قيمة إسهامه تتأتى من عاملين اثنين بالأساس:
أولهما الإتيان بحيوات المهمشين عبرهم هم، كقائلين حقًا لا موضوعات تناول. تلك كتابة نابعة من قلب الهامش، بألسنة حقيقية ومعاناة حقيقية، وإثم حقيقي، وضعف حقيقي وجريمة. المثقف البرجوازي الصغير غير موجود هنا، وليس ثمة افتعال طليعي يساري. الإسكافي، والعامل، وصاحب المقهى، والقاتل، والمتشرد، والحوذي. تلك نظرة مهمة لكونها حقيقية، بغير تمثل فج أيديولوجي، أو لا أخلاقي مبتذل (لمنطلقه الأخلاقي بالذات) كحالة نجيب محفوظ ومن هم أقل قدرة في الصنعة، كيوسف السباعي.
العامل الثاني هو اللغة الشعرية، بالغة الرهافة، للسرد - وكتابة الشعر حقًا كبناء بديل للبناء القصصي التقليدي بما يضعنا أمام نوع من قصيدة النثر - مكنت من بلوغ درجات من العمق في التناول، بالمزج بين صوت المتكلم ومشاعره والظرف المادي الموضوعي، وحلت مشكلة جمالية حقيقية. أعني: لا يمكن تقديم عمل واقعي تقليدي عن حياة هؤلاء المعذبين بغير تنفير، فحياتهم - الحقيقية، لا صورتهم حين يقابلهم البرجوازي الصغير وهم يبيعونه خدمة أو سلعة - لا تحتمل، جماليًا.
كان ذلك في القصة وفي الروايات القصيرة حادًا حارقًا عذبًا، وأفلت منه في المطولات نسبيًا وفيما كُتب خصيصًا لشرح مباشر لتحولات اجتماعية (النص الأخير بالكتاب: الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة). هنا فقط تبدت اللغة الشعرية مقحمة على الأيديولوجيا، وبات الرواة نواقل، وباخت القصة والقصيدة.
في العموم: تجربة قراءة رائعة، شافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق