المنهج الجدلي ونظرية المعرفة
في حين افترضت
الفلسفة اليونانية أن العقل البشري قادر على معرفة الحقيقة، تشككت الفلسفة النقدية
في ذلك ودعت إلى بحث ملكة المعرفة نفسها أولًا قبل البحث في الله أو الوجود
الحقيقي للأشياء. كان «كانت» هو أول من تساءل: ما المعرفة؟ وما حدودها؟ وكيف تكون
ممكنة؟
انتهت الفلسفة
النقدية إلى نتائج:
-
المعرفة تتألف من عنصرين: المادة التي يأتي بها الإحساس، والعلاقات الكلية
لتلك المادة.
-
الإحساس هو ملكة الإدراك في مكان وزمان معين، أما الزمان والمكان فتصورات
أولية أو صيغ خالصة للإدراك. الفهم هو الملكة التي تزودنا بالتصورات العقلية.
-
هناك عنصران للمعرفة: الإحساس، ونحن بصدده سلبيون متلقون، ومقابله الفكر
ونحن بصدده إيجابيون نحول الإحساس المادي الفج إلى معرفة.
-
المحسوس، الذي تزودنا به وتُعَرفنا عليه ملكة الإحساس، هو «الشيء في ذاته»،
هو مصدر خارجي، وهو «علة» إحساساتنا. من ثم فإن المعرفة عقلية كلها باستثناء الجزء
الخارجي المحسوس: «الشيء في ذاته».
***
اختلف «هيجل»
مع تلك النتائج، فلديه تكون المعرفة كلها عقلية، والإحساس هو نوع من النشاط
العقلي، ولا يمكن عزل الإحساس عن الفكر، فذلك تجريد لا يمكن تصوره، وفكرة «الشيء
في ذاته» (المصدر الخارجي المحسوس / علة إحساساتنا) هي فكرة متناقضة حيث أن «العلة»
مقولة من مقولات العقل والمقولات لا تنطبق على «الشيء في ذاته».
ولفهم رؤيته،
وبدء اتخاذ موقف منها، يحسن تتبع المراحل التي يمر بها العقل بحسب «هيجل»:
1-
مرحلة الوعي المباشر: هناك «ذات» هي
العقل تبدو مستقلة عن «موضوع» إدراكها وهو الشيء الحسي أو التصوير الذهني.
2-
مرحلة الوعي الذاتي: وفيها تتجلى
حقيقة «الموضوع» فإذا هي ليست إلا «الذات» المدركة نفسها وإذا بالاستقلال الاول قد
تحطم وانهار.
3-
مرحلة العقل: وفيها نجد أن «الموضوع»
متحد مع «الذات» ومختلف عنها في وقت واحد.
***
ملخص كيفية الانتقال بين مراحل العقل عند هيجل:
(1)
مرحلة الوعي المباشر – 3 خطوات (حركات) فرعية:
أ- الوعي الحسي أو اليقين الحسي: يتم التوهم في البداية بأن المعرفة الحسية (إدراك
الذات للموضوع المادي الحسي) هي أكثر ألوان المعرفة خصوبة وأكثرها صدقًا ويقينًا.
وأن الموضوع الحسي هو مباشر وبسيط ومعين.
ب- الإدراك الحسي: بقليل من التأمل يتم سلب تلك المباشرة والبساطة عن الموضوع وسلب إمكانية
الوصول إلى المعرفة من خلاله، فإذا هو مركب بين الكلية والجزئية وأن الكلية هي
الأساس لأنها تضفي المعنى على الخاصية الجزئية. فالموضوع يدرك من وسط أرضية، وأن
الشيء الواحد يدرك على أن له خواص أو كيفيات كثيرة. هذا الموضوع شيء فهو «واحد»،
ولأن له خواص متعددة فهو «كثير»، وكون الشيء واحدًا وكثيرًا في آن معًا معناه أنه
متناقض مع نفسه.
ت- الفهم: وسيلة حل
التناقض التي يلجأ إليها العقل هي الفهم. إذا كانت الذات قد أدركت أن موضوعها جزئي
ومركب في آن واحد، واحد وكثير، فلابد من رفع عنصر الجزئية والإبقاء على الكلية
ورفع تلك الكلية من كلية حسية / إدراكات حسية، كالشجرة أو المنزل، إلى إدراكات لا
حسية: كليات غير مشروطة. ينظر الفهم إلى الكلي الخالص أو غير المشروط على أنه
القانون، وإلى عالم ما فوق الحس بأنه مملكة القوانين، ويشبه التجليات الحسية
للقوانين فوق الحسية بتجليات قانون الجاذبية أو الكهرباء.
(2)
مرحلة الوعي الذاتي:
بمرحلة الوعي
المباشر اتسم الموضوع بتمايزه واستقلاله عن الذات المفكرة التي تحاول تبين حقيقته؛
فقد كان الموضوع في البداية وحدة معزولة من وحدات الحس، ثم أصبح مجموعة من الكليات
الحسية، وصار أخيرًا الكلي الخالص في صورة مملكة القوانين، ولكنه في كل الأحوال
مستقل عن الذات.
الوعي الذاتي
هو خطوة أبعد في تبين كنه الموضوع؛ فهو في صورة القانون فوق الحسي لم يعد واحدًا
وكثيرًا في الوقت نفسه (كما كان في مرحلة الإدراك الحسي الفرعية) وإنما صار واحدًا
بداخله كثير، أو هو الكلي الواحدي الذي يشطر نفسه إلى الجزئية، ومثل هذا الكلي هو «الفكرة
الشاملة»، ومن ثم فإن الفكرة الشاملة هي موضوع العقل.
ولكن الفكرة
الشاملة هي الذاتية، ومن ثم فإن الموضوع الآن هو الذاتية. الذات ترى أن ما هو
حقيقي في الموضوع هو نفسها؛ ترى صورتها الخالصة وانعكاسها في مرآة الموضوع.
(3)
مرحلة العقل:
بحسب مرحلة
الوعي الذاتي فإن الموضوع هو الذات: الذات حين تتأمل موضوعها فهي تتامل نفسها، لكن
الفكر حين يفكر في فكرة ما فإنه يلغي نفسه كفكر؛ الذات حين تجعل نفسها موضوعًا
لنشاطها فهي تلغي أو تنفي نفسها كذات، لأنها ليست الآن ذاتًا بل موضوع، حتى لو
كانت موضوعًا لنشاطها الخاص.
ومع حقيقة أن
الموضوع ليس آخر، وإنما هو الذات، فإن الموضوع متميز عن الذات ومتحد معها في وقت
واحد.
***
هامش رقم (1):
يكتنف تطبيق هيجل لمنهجه الجدلي (الذي سأفرد لتبسيط
فكرته التدوينة القادمة) ما قد يشكك بمدى امتلاك النموذج، بالغ التعقيد، قدرة
تفسيرية - حسب التعريف الذي وضعه هيجل لمهمة الفلسفة:
1-
استند هيجل في رفضه لاستقلال المحسوس عن الذات العاقلة إلى عدم انطباق
المقولات، حيث أن العلة مقولة، على الشيء في ذاته، وتعليل هيجل لهذا الحكم هو عدم
إمكانية التعبير عن الجزئي المحسوس أبدًا، كالشجرة والمنضدة، لأن التعبير يكون باستخدام
اللغة واللفظ اللغوي كلي. وكل إحساس لا يمكن التعبير عنه لا قيمة له عنده فضلًا عن
أن يكون قيمة عليا. ثمة خلط هنا بين الوجود وأداة التعبير عنه لا يمكن حله، مع
الحفاظ على نفي الوجود الموضوعي للمحسوس، إلا عبر مطلق ما؛ "فكر" شامل،
مما يتعين تقصيه عبر أجزاء تلك القراءة.
2-
تبدو وحدة الوجود كخلاصة لما بعد التوصل إلى "الفكرة الشاملة". ثمة
ضرورة لتفكيك طريق الوصل بين المقولات، ابتداء من أولى مقولات الوجود وانتهاء بآخر
أضلاع آخر مثلث من مثلثات "الفكرة الشاملة". على المقولات أن تتوالد
تلقائيًا بعضها من بعض دون تدخل خارجي من القائم ببناء النموذج (بفرض إمكانية تلك
"الموضوعية")، وهو ما لا يبدو واضحًا حتى الآن من تلخيص استباط هيجل
للعلاقة بين الكلي الواحدي الذي يشطر نفسه إلى الجزئية، والفكرة الشاملة؛ إذ اعتبر
الثانية معادلة للأول، ولا الربط بين الفكرة الشاملة والذاتية.
3-
يبقى الخلط المشار إليه بين الوجود وأداة التعبير عنه نقطة الضعف الكبرى
بالهيجلية، وتحليل تفاصيل المنهج نفسه يحدد قيمة وتبعات ما يُقصد بأن ماركس قد أوقف
هيجل على قدميه. قد يكفي الإسهام الهيجلي بتطوير مفاهيم "السلب" /
اللحظة الجدلية، وصراع الأضداد، والرفع الحامل من تناقض إلى تناقض أعلى يحمل داخله
كل ما سبقه. أقول قد يكفي بغض النظر عن قيمة التفاصيل. وقيمة "الطريق"
الهيجلي لجهة تأثيرها اللاحق على تاريخ الفلسفة موضوع يستحق معالجة مستقلة أظنها
خارجة عن موضوع الكتاب محل العرض، سواء في تطور الجدل بعد هيجل على الجانب "المثالي"،
أو بفحص علاقة الماركسية بهيجل فيما أُعلن كنهاية للفلسفة نفسها. كذا علاقة الأمر
كله باتجاهات "ما بعد الحداثة".
هناك 4 تعليقات:
رائع وصيف ، شىرح مميز ، سأعيد قراءة الكتاب من جديد لم افهمه بشكل جيد مقالك مساعد جدا شكرا لك 👏
إرسال تعليق